في احدى الجلسات الطربية التي كنت أقيمها مساء كل يوم ببيتي أواسط الستينيات، وعند انتهائنا من ترديد أغنية « فكروني »وهي من روائع الموسم آنذاك للسيدة أم كلثوم من ألحان الموسيقار محمد عبد الوهاب،فاجأنا المرحوم علي الحداني بملاحظة لم نكن ننتبه لخصوصيتها.
« هل لاحظتم ما جاء في كلمات هذه الاغنية من مفارقات ؟ انها تقول الشيء وضده «
قلت كيف هذا؟ قال رحمه الله، و هو الذي كان يحضر معظم جلساتنا تلك التي كان يتحفنا فيها الأخ حسن القدميري خاصة بترديد اغاني ام كلثوم من قبيل الأطلال، فكروني، فات الميعاد ،ألف ليلة وليلة .
» لاحظوا معي ،يقول المرحوم علي الحياني ،ان الكوبليهات الاوائل يسجلون كيف جاء من يذكر ذلك المعشوق بذكريات موجعة » صحو نار الشوق في قلبي وفي عيوني و »بعدما صدقت انى قدرت انسى ،جاو بهمسة و فكروني »، ثم يأتي في الكوبليه الأخير ويتنكر لكل تلك المؤاخذات حيث يقول » فكروني زاي ؟ هو نا نسيتك ؟ انت أقرب مني لي يا هنايا مهما كنت بعيد علي او معايا … » أليس هذا يعني قول الشيء وضده؟!! » سكت مهلة للتأمل ثم قال : « ما رأيكم لو أعمل على توظيف هذه الفكرة في قالب مغربي ؟ »
بالنسبة لي كانت هذه ملاحظة قيمة من شاعر جزال في أول مشواره الشعري ،لم أتوقع ما سينتج عنها لاحقا من ابداع وتالق ،حيث سيفأجئنا في الجلسة الموالية قبل تفرقنافي منتصف الليل ،ويقرأ علينا رحمه الله ما جاد به إحساسه وهو ينقل فكرة « فكروني » الى الدارجة المغربية حيث قال » ياك الجرح برا وقلت لباس القلب نساك وجا يفكرني….. »
وفي اليوم الموالي عدت لشقتي متأخرا شيء ما نتيجة عملي كمهندس مبتدئ بوزارة الصناعة، كان هذا اواخر سنة 1966.
كان الأخ حسن القدميري يسبقني إلى البيت، فوجدته يدندن بلحن لم يسبق لي ان سمعته فقلت له « لمن هذا اللحن العجيب » قال « هل أعجبك حقا ؟ » قلت جدا. قال هو من تلحيني ، فأنا ليلة البارحة بعد تفرقنا لم يأتني نوم فعملت على تلحين هذا المقطع الاول. لم اصدقه لان الاخ حسن القدميري كان لازال في بداية مشواره الفني ولم أقتنع بكلامه الا عندما نبهني إلى ان كلمات تلك الأغنية هي التي قرأها علينا علي الحداني ليلة الأمس، فقلت له « اذا كان هذا من تلحينك فإنك ستكون لامحالة من كبار الملحنين بالمغرب. » وكذلك كان والحمد لله.
انها رائعة: » ياك الجرح برا » التي سيؤديها المرحوم محمد الحياني باتقان ملحوظ هو الذي كان كذلك في مرحلة انطلاقته الموفقة الاولى.
وهكذا سيتشكل الثلاثي المغربي المبدع « علي الحداني – حسن القدميري – محمد الحياني » في أواخر الستينات ليتحفنا باغاني ناجحة، اذكر منها « يا سيدي انا حر »، و »بارد وسخون يا هوى » و »لا سماحة يا هوى » و » مالي ومال التنهدة « ، حيث سيوظف فيها على الحداني فكرة « الشيء وضده » من قبيل بارد وسخون التي ستكون أغنية الموسم الأولى سنة 1971 .
رحم الله المبدعين علي الحداني ومحمد الحياني واطال الله عمر اخي الفنان حسن القدميري، الذي سيبدع لنا لاحقا ألحانا تعتبر من روائع الأغنية المغربية اذكر منها لا على سبيل الحصر »وعدي يا وعدي » لسميرة بنسعيد و »ياجارة وادينا » للمرحومة رجاء بلمليح. و »ما تاقشي بيا » لعبد الهادي بلخياط.
ادريس الكتاني
سفير سابق